كي تصنّف الدولة على أنها دولة قانون، يجب أن تخضع جميع السلطات فيها للقانون سواء كانت تشريعية أم قضائية أم تنفيذية وهذا ما يسمى بمبدأ المشروعية أي سيادة حكم القانون، ومن هنا يمكن التمييز بين الدولة البوليسية ودولة القانون، فالمقصود ليس القانون بمعناه الضيّق الصادر عن السلطة التشريعية فقط بل المنظومة القانونية الشاملة التي ترعى الدول في علاقاتها مع مؤسساتها ومع مواطنيها أي القانون بمعناه الواسع الذي يشمل كل القواعد القانونية والأخلاقية بدءًا من الدستور مروراً بالإتفاقيات والمعاهدات الدولية وصولاً إلى القوانين العادية وغيرها.

إن ميزان الدول الذي يفرّق ما بين الدولة البوليسية ودولة القانون هو مراقبة أفعالها في أوقات الأزمات والحالات الطارئة، كحصول إحتجاجات وتظاهرات شعبية مطليبة مثلاً، هنا يكون الإمتحان الجدّي لضبط إلتزام الدولة لمبدأ الشرعية من عدمه.

إن أكثر ما يثير الجدل هو كيفية تعاطي الدولة عبر مؤسساتها الشرعية مع الاحتجاجات والتظاهرات لناحية الموازنة بين ضبط الأمن من جهة وحماية الحريات وأهمها حرية إبداء الرأي والتعبير وحق التظاهر، وفي معظم الأوقات إن لم نقل جميعها ترسب الحكومات في هذا الامتحان رغم سهولته، لأن المطلوب فقط تطبيق القانون لا أكثر، إذ تخفق الدول في معالجة الأزمة بالطرق الصحيحة عبر تطبيق القوانين والأعراف التي ترعاها.

شكّل لبنان مؤخراً حقلاً للتجارب في هذا المضمار، إذ أنه منذ إندلاع ثورة 17/10/2019 حتى كتابة هذه السطور، خضعت السلطات اللبنانية إلى اختبار دولة القانون وكانت النتيجة أنها فشلت فشلاً ذريعاً، بعد تقلّص هامش الحريات الذي ترافق مع تضخم كبير للانتهاكات والتجاوزات مع استعمال أساليب جديدة ومبتكرة في الاعتقال والاحتجاز خارج إطار القانون إضافة إلى الإخفاء القسري وأخيرًا التعذيب أثناء الاحتجاز والتحقيق.

إن أصول الملاحقة والتحقيق والمحاكمة في لبنان ينظمها الدستور والمعاهدات الدولية التي يعدّ لبنان طرفاً فيها والقوانين الخاصة بها.

فالمادة 8 من الدستور اللبناني تنص على أنه: "الحرية الشخصية مصونة وفي حمى القانون ولا يمكن أن يقبض على أحد أو يحبس أو يوقف إلاّ وفاقاً لأحكام القانون ولا يمكن تحديد جرم أو تعيين عقوبة إلاّ بمقتضى القانون".

أما قانون أصول المحاكمات الجزائية في المادة 24 وما يلها منه فقد أناط بالنيابة العامة صلاحية استقصاء الجرائم وملاحقتها وتحريك الدعوى العامة ومتابعتها بمعاونة الضابطة العدلية التي حدّدت أشخاصها بصورة حصرية في المادة 38 منه.

في حين أن حماية حقوق المشتبه بهم عند الاحتجاز لضرورات التحقيق ومنع تعرضهم للتعذيب فقد رعتها المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية وقانون تجريم التعذيب إضافة إلى الدستور اللبناني والمعاهدات الدولية ذات الصلة كالاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب المصدق عليها من لبنان.

فإن على الدولة اللبنانية خلال ضبطها الأمن أثناء الاحتجاجات والتظاهرات الالتزام بأمرين أساسيين: الأول هو أن تتم الملاحقة والتوقيف حصراً بواسطة السلطة القضائية ممثلة بالنيابة العامة التي يعاونها الضابطة العدلية وفقاً للقانون. والثاني هو أن تؤمّن الحماية الكاملة لحقوق المشتبه بهم المحتجزين قيد التحقيق لناحية الاتصال بذويهم أو بمحام يختارونه أو طلب طبيب شرعي لمعاينتهم وبكل تأكيد عدم تعرضهم لأي نوع من أنواع التعذيب أو الإكراه أثناء التحقيق.

وتبين أنه منذ اندلاع احتجاجات 17/10/2019 والموجة الثانية من الاحتجاجات في شهر نيسان/أبريل 2020 التي كانت الأعنف حتى الآن بعد الإنهيار الكلّي للاقتصاد اللبناني والليرة اللبنانية وخسارة المواطنين لودائعهم ومدّخراتهم نتيجة الاجراءات التعسفية المخالفة للقانون من قبل مصرف لبنان والمصارف العاملة في لبنان ومن خلفهم جمعية المصارف اللبنانية، للمطالبة بأبسط الحقوق المدنية وقيام دولة عادلة قائمة على أساس المحاسبة وسيادة القانون، ارتكبت السلطات انتهاكات عديدة بحق المتظاهرين، ونفذت عملية قمع عنيفة ومنسّقة غير مسبوقة عبر وضع الجيش اللبناني بوجه المواطنين حيث سجّلت العديد من الانتهاكات والمخالفات للقوانين ولحقوق الإنسان، بدءًا من الاستعمال المفرط غير المبرر للقوة لفض التجمعات وتفريق المتظاهرين وصولاً إلى استخدام الرصاص الحي والمطاطي بصورة مخالفة للقوانين والأعراف الدولية والمحلية وقد سّجلت العديد من الاصابات البالغة أدت إلى مقتل أحد المتظاهرين وبعضها إلى عاهات دائمة وأطفأت عيون البعض الآخر من المتظاهرين مروراً باستعمال الغاز المسيل للدموع والضرب المبرح أثناء التوقيف وخلاله للمتظاهرين من بينهم قاصرين.

إلاّ أن اللافت في عملية القمع الأخيرة هو استعمال التعذيب بأساليب تنتمي بالنسبة للبنانيين إلى زمن ولّى ومضى كتعريض بعض الموقوفين للصعق بالتيار الكهربائي أثناء التحقيق من مخابرات الجيش اللبناني جرى توثيقها عبر شهادات الموقوفين وتقارير طبية أثبتت حصولها.

بعد أن وصلت الأمور إلى هذا المستوى من التعاطي مع المتظاهرين وعدم احترام للدستور والمعاهدات الدولية والقانون والقيم الأخلاقية التي تحمي الحقوق والحريات العامة والفردية، أصبح لا بدّ من إعلاء الصوت وتسليط الضوء على هذه المخالفات والانتهاكات التي ارتكبت بحق المواطنين وبيان القوانين التي ترعى هذه الحريات والحقوق.

- إن وضع الجيش  اللبناني في وجه المواطنين واغتصابه لدور ومهام الضابطة العدلية عبر قيامه بالتحقيق والتوقيف في قضايا تتعلق بالحريات وحق التظاهر يعتبر مخالفة كبرى يجب أن تتوقف فوراً، فالمادة 38 من قانون أصول المحاكمات الجزائية حدّدت أشخاص الضابطة العدلية المولجين معاونة السلطة القضائية في عملية الملاحقة والتحقيق والتوقيف بصورة واضحة ودقيقة ويتبين أن الجيش ليس من عداد أشخاص الضابطة العدلية التي حدّدتها المادة 38 آنفة الذكر وبالتالي لا يمكن بأي شكل من الأشكال اعتبار مخابرات الجيش اللبناني من أشخاص الضابطة العدلية ولا يمكن إعطاؤها مهام التحقيق والتوقيف والملاحقة التي هي من ضمن مهام الضابطة العدلية وعليه تكون جميع التحقيقات التي أجرتها وتجريها مخابرات الجيش باطلة وعديمة الوجود خاصة لناحية قضايا تتعلق بحق التظاهر والحريات.

- فالمبدأ الأساس الذي لا يجب أن نحيد عنه هو أن الجيش ليس بضابطة عدلية ولا يمكن أن يكون.

- من الثابت أنه لا يمكن توقيف أي شخص إلاّ بموجب أمر قضائي صادر عن القضاء المختص أو إشارة قضائية صادرة عن النيابة العامة وعلى الضابطة العدلية في هذا المجال التقيّد بشكل حرفي بتعليمات النيابة العامة كما عليها الالتزام التام بالقوانين التي ترعى التوقيف والتحقيق وحقوق المشتبه بهم أثناء الاحتجاز سيما المبادئ التي كرّستها المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني، فقد درجت العادة أنه عند توقيف شخص ما من مخابرات الجيش انقطاع أخباره وغياب أية معلومات عنه لمدة لا تقل عن 24 إلى 48 ساعة الأمر الذي يشكل نوع من أنواع الإخفاء القسري المحرم قانوناً وبعد ذلك يجري تحديد مكان احتجازه وخلال هذه الفترة لا يعرف ما هي الإجراءات التي اتخذت بحقه أثناء التوقيف والتحقيق وقد سُجّل العديد من هذه الحالات.

-         أمّا آخر العنقود في هذه الانتهاكات حصول تعذيب بواسطة الصعق بالتيار الكهربائي أثناء التحقيق والاحتجاز لدى مخابرات الجيش بهدف انتزاع اعترافات أو إفادات عن المجموعات التي تقوم بالاحتجاجات، فبالرغم من أن لبنان لم يعتد على سماع هكذا أسلوب  من التعذيب بحق متظاهرين من خلال إحدى مؤسساته الأمنية الرسمية لكن المواطن اللبناني سبق له أن اختبر هذه الأساليب في حقبة ما قبل العام 2005 و أثناء الحرب الأهلية 1975-1990 ويبدو أن البعض ممن يتولى التعامل مع المتظاهرين أراد العودة إلى هذه الأساليب إمّا لإعجابه بحقبة ما قبل العام 2005 أو أنه ممن تولوا مهام رسمية من خريجي ميليشيات الحرب الأهلية.

إضافة إلى المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني هناك أيضاً القانون رقم 65/2017 (قانون تجريم التعذيب) الذي عرّف التعذيب واعتبر أنه لا يجوز التذرع بحالة الضرورة أو مقتضيات الأمن الوطني أو أوامر السلطة الأعلى أو أية ذريعة أخرى وأن الأوامر بالتعذيب الصادرة عن أي موظف من أية رتبة أو سلك أو سلطة كان في جميع الأحوال هي أوامر غير شرعية، وأناط القانون صلاحية الاستقصاء والملاحقة والتحقيق في جرائم التعذيب للنيابة العامة الاستئنافية حصراً التي تقرر بدورها حسب الحالة المعروضة أمامها أن تحفظ الشكوى أو الإدعاء أمام قاضي التحقيق دون إجراء أو استقصاء أو تحقيق أولي إلاّ من قبلها شخصياً.

والمفارقة أنه عندما تقدم المتضررون من التعذيب بشكاوى عن حصول حالات تعذيب أثناء التحقيق وفقاً للقانون رقم 65/2017 أحيلت هذه الشكاوى إلى الأجهزة الأمنية المشكو منها، آخرها إحالة شكاوى التعذيب بالصعق الكهربائي من قبل مخابرات الجيش إلى مخابرات الجيش للتحقيق فيها! الأمر الذي يشكّل مخالفة فادحة للقانون رقم 65/2017 عبر إناطة التحقيق بجرم اقترفه الجهاز الأمني نفسه، بينما الأصول تقتضي الإدعاء وإحالة الشكوى إلى قاضي التحقيق لمباشرة تحقيقاته وفقاً للقانون، إن دلّت هذه المخالفات على شيء فهي تدل على إمعان السلطات اللبنانية في مخالفة القانون وتنصلها من التزاماتها في تطبيق القوانين والمعاهدات الدولية سيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية واتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1948 التي صادق عليها لبنان دون أية تحفظات في العام 2000،

من كل ما تقدم، يبدو أن السلطات اللبنانية على الورق غيرها على أرض الواقع، فلناحية سنّ القوانين والتصديق على المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان تسارع السلطات اللبنانية للقيام بما هو لازم، أمّا لناحية التطبيق والالتزام بتنفيذها فهي على النقيض تتجه أكثر فأكثر إلى الدولة البوليسية القمعية عبر الانتهاكات المتكررة والخطيرة لحقوق الإنسان والقوانين ذات الصلة، حسبها في أعمالها هذه تقوم بخديعة مزدوجة للرأي العام المحلي والدولي.

لقد آن الأوان ليأتي اليوم الذي يسود فيه حكم القانون ولا شيء غير القانون، فمخابرات الجيش ليست من أشخاص الضابطة العدلية ولا يمكنها القيام بمهام الضابطة العدلية سيما في قضايا حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير والحق في التظاهر.

لقد آن الأوان لحماية حقوق المشتبه بهم أثناء الإحتجاز والتحقيق لناحية الاتصال بذويهم ولقاء محام من اختيارهم وعدم تعرّضهم للتعذيب، كما التوقف عن محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.

لقد آن الأوان لوضع الأمور في نصابها الصحيح وتطبيق القانون والالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والسير بالدولة نحو دولة المواطنة والقانون على أساس الشفافية والمحاسبة التي لا يمكن أن تتحقق إلاّ عبر قضاء مستقل نزيه وكفوء وقوي يضطلع بدوره ويحكم بإسم الشعب اللبناني ويكون على قدر تطلعاته وآماله، وإلاّ على دولة القانون والمؤسسات السلام التي أصيبت بصعقة كهربائية يبدو أنها كانت قاضية، فلنقم عليها مأتماً وعويلا!