يشهد قطاع غزة ارتفاعًا في معدلات الانتحار بين السكان بالتزامن مع دخول الحصار الإسرائيلي الخانق عامه الرابع عشر، إذ لا يمكن تفسير ذلك التصاعد بمعزل عن تحليل الأثر النفسي الكبير للحصار الإسرائيلي على سكان القطاع.

   أقدم ما لا يقل عن 16 شخصًا على الانتحار في النصف الأول من العام 2020، بالإضافة إلى مئات آخرين حاولوا الانتحار في نفس الفترة   

في 21 يونيو 2020، أقدم الفلسطيني "جمال وادي" (54 عامًا) على الانتحار في منزله بمدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، بعد ثلاثة عقود من المعاناة من مشاكل نفسية وعقلية تسبّبت بها 23 سنة من الاعتقال في السجون الإسرائيلية.

تقول "ميرفت" زوجة "وادي" لـ"ميدل إيست آي": "منذ أكثر من 20 عامًا بعد زواجنا، بالكاد أتذكر أنني رأيت جمال مستقرًا عاطفيًا وعقليًا باستثناء الثلاثة أشهر الأولى بعد زفافنا، حيث كان آنذاك شخصًا مختلفًا تمامًا".

في أوائل التسعينيات وبعد فترة وجيزة من زفافهما، اعتقلت القوات الإسرائيلية "وادي"، إذ ظنت زوجته حينها أنّ اعتقاله لن يدوم أكثر من يومين أو حتى أسبوعين، ولكنه استمر 17 عامًا".

تروي الزوجة أنّه "أثناء الزيارات الأسبوعية للسجن، بدأت ألاحظ تغييرات في الصحة العقلية لزوجي، ولكني لم أتوقع أن يصل به الحال إلى صدمةٍ نفسيةٍ شديدة كانت كفيلة بقلب حياتنا رأسًا على عقب".

وتضيف أنّه "في كل مرة كنت أزوره في المعتقل، كنت ألاحظ أنّه تعرض للضرب، وكانوا يبقونه في الحبس الانفرادي لفترات طويلة، حتى بدا أمامي شخصًا آخر غير الذي أعرفه، لدرجة أنّ عينيه والطريقة التي ينظر بها اختلفتا، فكان شخصًا مختلفًا عن الشخص الذي تزوجته منذ بضعة أشهر".

وبعد إطلاق سراحه عام 1997، بدأت عائلة "وادي" رحلةً طبية طويلة لعلاج ما اعتقدوا أنّه مجرد صدمة، حيث كان ذلك قبل أن يتم إعلامهم بأن نجلهم يعاني من اضطرابات عقلية ونفسية طويلة الأمد، بما في ذلك "الشيزوفرينيا"، أو ما يعرف بانفصام الشخصية، إضافةً إلى نوبات صرعٍ شديدة واضطراب ما بعد الصدمة.

وبالرغم من حصول "وادي" على وظيفة في السلطة الفلسطينية وتحقيق درجة من الاستقرار المالي، وهو أمر ليس سهلًا في قطاع غزة، إلا أنه وجد صعوبة بالغة في التأقلم مع الحياة بعد خروجه من السجن.

وعن الاضطرابات التي كانت تلازم "وادي"، يقول شقيقه "سامي" لـ"ميدل إيست آي": "كان يتملّكه خوف شديد من العودة إلى السجن، إذ كان يتخيّل بشكل مستمر أنّ القوات الإسرائيلية ستقتحم المنزل وتعتقله في أيّ لحظة، ويصرخ باستمرار: "إن لم أمت، سيقتلونني"، ولم يكن يصدقنا رغم كل محاولاتنا لتهدئته وطمأنته". لكنّه يستدرك: "على الرغم من كل ذلك، لم نتوقع أبدًا أن تلك الحالة ستقوده إلى الانتحار في نهاية المطاف. لقد صُعقنا بشدة، لم نتوقع أن يحدث ذلك على الإطلاق". ويلفت سامي في نهاية حديثه إلى أن حالة "جمال" ليست الوحيدة، إذ إنّه يعرف الكثير من السجناء السابقين الذين حاولوا الانتحار بفعل المضاعفات والاضطرابات التي خلّفتها سنوات الاعتقال.

وتعتقد عائلة وادي جازمةً أنّ "جمال" أقدم على الانتحار لأنها الطريقة الوحيدة التي ستشعره بالطمأنينة، وأنّه لن يعود مرة أخرى خلف القضبان.

وبحسب مركز الميزان لحقوق في غزة، أقدم ما لا يقل عن 16 شخصًا على الانتحار في النصف الأول من العام 2020، بالإضافة إلى مئات آخرين حاولوا الانتحار في نفس الفترة.

وتبدي جمعيات حقوقية محلية قلقها من ارتفاع معدلات الانتحار في غزة، سواء كان العامل الأساسي الصعوبات الاقتصادية أو التأثير المؤلم لسياسات الاحتلال الإسرائيلي.

وكانت الأمم المتحدة حذّرت في عام 2012 من أنّ قطاع غزة سيصبح منطقة "غير قابلة للعيش" بحلول العام 2020 بسبب استمرار الحصار الخانق والدمار الناجم عن ثلاثة حروب منذ 2007، بالإضافة إلى الانقسام الداخلي.

وبحسب منظمة "الضمير" لحقوق الإنسان، فإن إسرائيل تعتقل في سجونها في الوقت الحالي نحو 4700 فلسطيني بينهم 267 من قطاع غزة.

تشير بيانات الاتحاد الأوروبي إلى أنّ الحصار والأعمال العدائية المتكررة أضعفت الاقتصاد المحلي في القطاع المحاضر، لدرجة أن ما نسبته 80% من إجمالي سكان القطاع-أكثر من مليون ونصف شخص- يعتمدون بشكل أساسي على المساعدات.

ووفقًا للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، فإنّ عدد الشركات في قطاع غزة انخفض من 3500 إلى 250 شركة منذ فرض الحصار على عام 2007، حيث تعيش في الوقت الراهن ما نسبته 54% من عائلات قطاع غزة تحت خط الفقر.

   ماذا لو لم يكن هناك احتلال، من منا سيفكر في الانتحار حينئذ؟ نحن قادرون على بناء حياة مستقلة ناجحة، ولكن أن ننام ونستيقظ على نفس الظروف الخانقة، فذلك يستنزف من حياتنا   

هيثم عرفات، فلسطيني حاول الانتحار

وجاءت جائحة فيروس كورونا لتزيد الأمور تعقيدًا، إذ أدّت التدابير المتخذة للحد من انتشار الفيروس إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية، وتسبّبت في فقدان حوالي 26 ألف و500 شخص لوظائفهم في الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2020.

ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ معدل البطالة في الربع الأول من العام 2020 46%، مقارنة بـ42.7% في الربع الأخير من العام 2019، ما يؤشر بالضرورة على مدى خطورة الوضع قبل عام 2020، وهو العام الذي شهد فيه الاقتصاد العالمي خسائر ضخمة.

من جهتها، قالت مديرة الشؤون القانونية في مركز الميزان لحقوق الإنسان، "نوريا أوزوالد"، إنّ هذه الأرقام المقلقة تمثل شاهدًا على اليأس والآثار النفسية الشديدة الناشئة عن الإغلاق، مضيفةً أنّ العاملين في القطاعين المزدهرين في الماضي، قطاعي الصيد والزراعة، معرضون للخطر بسبب العنف العسكري الإسرائيلي والقيود المؤثرة على سبل عيشهم ومصدر رزقهم.

وفي حالة أخرى، أقدم "هيثم عرفات" (37 عامًا)، وهو أبٌ لأربعة أطفال، في أوائل يوليو، على إحراق نفسه بعد أن عجز عن سداد ديونه، ووجد نفسه في وضعٍ مادي صعب، ولكن تم إنقاذه من قبل المارة.

وقال "عرفات": "أتقاضى راتبًا شهريًا من السلطة الفلسطينية ولكن لا يبقى منه ما يكفيني وأطفالي بسبب ديوني الكثيرة. حاولت العمل في العديد من المجالات لتأمين لقمة العيش إلا أنّ محاولاتي باءت بالفشل، كما أنني أعاني من مشكلة عضوية بيدي حيث لا أستطيع أن أحمل أي شيء ثقيل، ولم يستطع الأطباء في قطاع غزة تشخيص حالتي".

ويوضح "عرفات" أنه الناجي الوحيد من عائلته من مذبحة "صبرا وشاتيلا" عام 1982، حيث كان رضيعًا، ويشعر أنّه تُرك وحده لمواجهة هذا "الوضع الذي لا يطاق".

وتساءل عرفات: "ماذا لو لم يكن هناك احتلال، من منا سيفكر في الانتحار حينئذ؟ نحن قادرون على بناء حياة مستقلة ناجحة، ولكن أن ننام ونستيقظ على نفس الظروف الخانقة، فذلك يستنزف من حياتنا".

وعلى الرغم من تصاعد محاولات الانتحار في القطاع المحاصر، رفض الدكتور "يوسف عوض الله" (طبيب نفسي مقيم في قطاع غزة) في حديثه لـ"ميدل إيست آي" تصنيفها على أنها ظاهرة واسعة الانتشار في القطاع.

وأوضح أنه "على الرغم من تسجيل 22 حالة انتحار في قطاع غزة في العام 2019، حيث يعيش 2 مليون نسمة، إلا أنه لا يمكن أن نطلق على الانتحار ظاهرة، مؤكدًا أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة هي العامل الرئيس في تفاقم المشكلة".

وأضاف أنّه "وعلى عكس بعض التصورات، فإنّ محاولات الانتحار غالبًا ما تنبع من تجارب شخصية مليئة بالمعاناة".

وأوضح "أنّ فكرة الانتحار لا تظهر من العدم، بل هي نتاج فكري عميق دام لأيام وشهور، إلى أن يصل الشخص للاقتناع التام بأن الانتحار هو السبيل الوحيد للراحة".

ويوجد في قطاع غزة عدة مرافق خدمية لمساعدة الأشخاص الذين يعانون من مشاكل الصحة العقلية ويحملون أفكارًا انتحارية، بالإضافة إلى خط المساعدة الخاص بـ"برنامج غزة للصحة النفسية".

هذا التقرير مترجم من اللغة الإنجليزية، للاطلاع على النسخة الأصلية، اضغط هنا