الواقع الذي فُرض على المعتقلين والمختفين قسريًا في سوريا لا يمكن أن يطاق أو يُغفر، ولسوء الحظ، فإن خروجهم من تلك العتمة لا يعني أنهم نجوا تمامًا من القمع، حيث تجد الأنظمة الاستبدادية دومًا أساليب جديدة لتعقيد حياة الضحايا وأسرهم على المدى البعيد حتى لو أخلت سبيلهم، وبالنسبة للحكومة السورية فإن النهج معروف؛ اعتقال ومصادرة ممتلكات.
قبل أيام معدودة، ذكر تحقيق صحفي أن الحكومة السورية صادرت أصولًا بقيمة مليار و500 مليون دولار من المعتقلين والمختفين قسرًا منذ 2011 حتى عام 2021، وذلك يشمل أرصدة بنكية وسيارات وعقارات وأراض زراعية، وتجري عملية الاستيلاء بطرق غير رسمية أو رسمية من خلال الجهاز القضائي المحلي، دون اتباع الإجراءات القانونية وبدون أي إشعار أو تعويض.
وفيما يتعلق بالشق الرسمي، فقد ذكر التحقيق أن المعتقلين يجبرون على توقيع إدانات ضدهم وهم معصوبو الأعين بعد محاكمتهم بتهم مرتبطة بـ "الإرهاب"، دون أن يعلموا أن قانون "مكافحة الإرهاب" يحرمهم من حقوقهم المدنية ويسمح للحكومة بحجز ومصادرة ممتلكاتهم بشكل دائم، بما يصل حد الإخلاء القسري بحق المالكين.
عقاب جماعي طويل الأمد
في عام 2012، أي عقب اندلاع الأزمة السورية بعام واحد تقريبًا، أصدر الرئيس بشار الأسد قانون رقم (19) الخاص بمكافحة الإرهاب، وبموجبه يمكن للحكومة تجميد الأموال، بمعنى حظر التصرف بالأموال المنقولة وغير المنقولة أو تحويلها أو نقلها أو تغيير صورتها لفترة معينة أو خلال مراحل التحقيق والمحاكمة، كما يمكنها أيضًا المصادرة، بمعنى الحرمان الدائم من الأموال المنقولة وغير المنقولة وانتقال ملكيتها إلى الدولة وذلك بموجب حكم قضائي.
منذ ذاك الوقت، استغلت الحكومة السورية قوانين مكافحة الإرهاب لاستهداف المعارضة، وخنق المعتقلين والمختفين قسريًا بتهمة الإرهاب من خلال انتزاع اعترافات بالإكراه تحت التعذيب، وخاصةً أن المادة (7) تنص على عدم تقيد المحكمة بإجراءات المحاكمة المعيارية، ما يعني أن المحكمة غير ملزمة بإجراء محاكمات مفتوحة، ولها سلطة مطلقة في تحديد إجراءاتها، وبالتالي ليس هناك ضمانات على وجود محاكمة عادلة لأشخاص كانوا في الغالب يمارسون حقوقهم الأساسية في التعبير عن الرأي والتجمع.
بالنظر إلى طبيعة الحكومة السورية وسجلها الحقوقي المروع، وتحديدًا فيما يتعلق بملف المعتقلين والمختفين قسريًا، فمن السهل جدًا أن نلاحظ أن الدولة قائمة على نظام قمعي مؤسساتي
نور علوان، مسؤولة الإعلام في المرصد الأورومتوسطي
وتحت الغطاء القانوني ذاته، قررت الحكومة السورية معاقبة أسر المعتقلين بالكامل، وانتهاك حقهم في الملكية، على أساس علاقتهم بالمتهم، وليس على أساس المسؤولية الجنائية الفردية، وهو ما يحظره قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدوليّين.
وفي كثير من الحالات لم يصل أي إخطار بهذا الخصوص للضحايا أو ذويهم، إذ يعلم الأشخاص عن مصادرة ممتلكاتهم عند محاولة الوصول إليها أو تسجيلها أو إجراء معاملة تتعلق بها، وفي بعض الأحيان يصلهم الخبر عبر الوسائل الإعلامية، وفي الغالب لا يجرؤ أحد على الاعتراض أو المساءلة خوفًا من الاعتقال أو لعدم معرفتهم بالجهة التي يمكنهم اللجوء إليها لحل هكذا قضايا، تحديدًا مع غياب المؤسسات المحايدة أو المستقلة في البلاد.
وبالنظر إلى طبيعة الحكومة السورية وسجلها الحقوقي المروع، وتحديدًا فيما يتعلق بملف المعتقلين والمختفين قسريًا، فمن السهل جدًا أن نلاحظ أن الدولة قائمة على نظام قمعي مؤسساتي، لا يحرم آلاف الناس من حريتهم فحسب، وإنما من قوت يومهم وسبل عيشهم، فهو يدمر حياة المعتقلين وأسرهم حتى بعد نجاتهم من السجن، حيث لا مأوى ولا مال ولا حق في الاعتراض.
ولا شك أن هذه الممارسات التعسفية تعد بمثابة فسحة للحكومة السورية، فهي تحاول الاستفادة من تلك الأموال للخروج من أزمتها الاقتصادية الحالية، وتعويض المقاتلين والميليشيات التي تعمل معها، وهي المعطيات التي تدفعنا إلى نفس الاستنتاجات كل مرة، وهي أن فرض عقوبات دولية على الحكومة السورية إجراء غير كاف لإنهاء الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وتحقيق العدالة للضحايا، فمن الواضح أن ما يحدث هو العكس تمامًا، إذ تتمادى السلطات في وحشيتها وتكتيكات القمع والتجويع.
بناءً على هذه الحقيقة التي باتت واضحة، لم يعد ممكنًا أن يواجه المجتمع الدولي ما يحدث في سوريا من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بلوائح العقوبات فقط. لا بد التصدي لسلسلة الفظائع بإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب، والبدء بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة وقت الحرب، وتقديم التعويض المناسب للضحايا وذويهم.
وما لم نر إجراءات حاسمة لوقف هذه الانتهاكات، فليس من المتوقع أن نرى إلا المزيد من ممارسات الاستيلاء والمصادرة التعسفية دون أن يكون للسوري الحق في استرداد أملاكه أو السكن بأمان وكرامة.