على مدار 11 عامًا تقريبًا من لجوء نحو 1.5 مليون سوري إلى الأراضي اللبنانية، لم تمنح السلطات المحلية الهاربين من الحرب والاضطهاد حقوقهم كلاجئين على اعتبار أنّ لبنان ليس من الدول الموقعة على اتفاقية اللاجئين لعام 1951، وعانوا نتيجة ذلك من صعوبات بالغة على المستوى القانوني والمعيشي. ويعتمد نحو 840 ألف لاجئ سوري مسجلين لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في لبنان على معونات مالية وغذائية محدودة توفرها المفوضية، لكنّهم يصطدمون بالسياسات الحكومية المتشددة تجاههم، والتي جعلت فرصهم الاقتصادية والاجتماعية محدودة ومرهونة أيضًا بأهواء السياسيين وبرامجهم المؤقتة.

 بناءً على هذا الوضع، ظلت محاولات السوريون في التأسيس والاستقرار مضعضعة. ومع تصاعد تهديدات وعمليات الترحيل في آخر 3 أعوام تقريبًا، تحول اهتمامهم من تحسين ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية إلى صراعٍ للبقاء قيد الحياة، بعيدًا عن أيدي السلطات السورية والميليشيات التابعة لها، خاصةً أن ثمة أدلة تثبت تعرض بعض العائدين إلى سوريا بين عامي 2017 و2021 لانتهاكات مروعة، شملت الخطف والاعتقال والتعذيب والاغتصاب والإخفاء القسري والقتل.

   تحاول الحكومة اللبنانية أن تُظهر أنّ قرار ترحيل اللاجئين السوريين لا يتعارض مع نصوص القانون الدولي العرفي والتزاماتها تجاهه، ولكنها تتجاهل في حقيقة الواقع أنّها تمارس الإعادة القسرية بطريقة التفافية وغير مباشرة   

ومع ذلك يصر أكثر من مسؤول سياسي لبناني، منهم وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور الحجار، ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي، على "إخراج السوريين من لبنان بالطرق القانونية"، فهل يمنحهم القانون هذه الصلاحية؟

هل يحمي القانون اللاجئين السوريين في لبنان من الترحيل القسري؟

تعتزم الحكومة اللبنانية إعادة 15 ألف لاجئ سوري شهريًا، مع ضمان تأمين الظروف الملائمة لعودتهم ومستلزمات العيش والصحة والطبابة والدراسة والإيواء. وتجنبًا للملاحقات الأمنية التي قد تطال بعض المرحلين، طرحت الدولة خيارين؛ إما التعهد للحكومة السورية "بعدم الإضرار بالدولة السورية"، وإما الترحيل إلى دول ثالثة.

وبطبيعة الحال، لا يمكن الاعتماد بتاتًا على الخيار الأول لسببين، وهما: الأول أنه مبني على افتراض خاطئ بأن اللاجئين السوريين قد أخلوا بالضرورة بالأمن العام أو أضروا بالنظام وبالتالي ينبغي عليهم طلب السماح والعفو من بشار الأسد، والثاني أنّ السجل الحقوقي لكلا الحكومتين ليس مدعاة للثقة، ما يعني أن الحديث عن عودة آمنة وكريمة ليس سوى مجرد وعود مستحيلة ومنتهية الصلاحية.

ولنفترض أن كلا الطرفين اتفقا بالفعل على تأمين أوضاع المرحلين أمنيًا ومعيشيًا، ثم تراجعت الحكومة السورية عن موقفها، وأطلقت أجهزتها الأمنية عليهم، فمن سيتحمل مسؤولية الاختطاف أو التعذيب أو القتل؟ ومن سيحقق لهم العدالة؟ وهل يمكن أساسًا أن تعترف الحكومة السورية بارتكاب أي انتهاك؟، الجواب بسيط: لا.

وبالنظر إلى عمليات الترحيل القسري من الناحية القانونية، فإنّ لبنان مُلزم بمبدأ عدم الإعادة القسرية بموجب القانون الدولي العرفي، وبصفته أيضًا طرفًا في اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، والتي تنص على أنه: "لا يجوز لأي دولة طرف أن تطرد أو تعيد أو تسلّم أي شخص إلى دولة أخرى إذا كانت هناك أسباب حقيقية تدعو إلى الاعتقاد بأنه سيكون في خطر التعرض للتعذيب".

وتنص المادة 14 من الإعلان العالمي على أنّ "لكل فرد حق التماس ملجأ في بلدان أخرى والتمتع به خلاصا من الاضطهاد".

عودة طوعية صورية

تحمي المواد القانونية السابقة اللاجئ السوري من خطر الترحيل القسري، طالما كانت حياته معرضة للخطر في بلده أو كانت أوراقه قانونية (مسجل لدى مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين في لبنان)، كما تمنحه الحق في التمثيل القانوني وتسوية أموره قبل اتخاذ أو تنفيذ حكم الترحيل.

 ومع ذلك، يُمكن للسلطات في حالات معينة أن تتعسف في تفسير بعض القوانين خدمةً لأجندتها، وأبرز وسيلة لتحقيق ذلك هو اتهام اللاجئ بـ "الإرهاب" والتذرع بالحفاظ على الأمن الوطني ومصلحة النظام العام، وغيرها من المصطلحات الفضفاضة التي تثير حساسية وحذر الرأي العام في آن.

وفي حالات أخرى، قد تجبر السلطات اللاجئ على توقيع أوراق تفيد برغبته على العودة إلى بلده. على سبيل المثال، في 26 أبريل/نيسان 2019، رحّلت السلطات اللبنانية 16 سوريًا على الأقل، بعضهم مسجلون كلاجئين، ومنهم من أعربوا عن خوفهم من التعذيب والملاحقة في حال إعادتهم إلى سوريا، لكن السلطات اللبنانية حرمتهم من حقهم في الاعتراض أو الدفاع، بل وأجبرتهم على توقيع استمارات "عودة طوعية إلى الوطن"، وهو ما يتعارض كليًا مع القرار الطوعي بالعودة والذي يجب أن يتضمن عنصرين: الأول، الحرية في الاختيار بغياب أي وسائل ضغط جسدية، نفسية، أو مادية، والثاني اتخاذ قرار واعٍ بناءً على المعلومات المتوفرة الموضوعية المحدثة والدقيقة والتي بني عليها هذا القرار الطوعي، أي إعلام العائد بظروف العودة على أكمل وجه.

وهكذا، فإن الحكومة اللبنانية تحاول أن تظهر أنّ قرار ترحيل اللاجئين السوريين لا يتعارض مع نصوص القانون الدولي العرفي والتزاماتها تجاهه، ولكنها تتجاهل في حقيقة الواقع أنّها تمارس الإعادة القسرية بطريقة التفافية وغير مباشرة، من خلال ممارسة ضغوط نفسية على السوريين (أحيانًا بتحريض من المنصات الإعلامية) أو بتعقيد الوضع القانوني لهم والتضييق عليهم في سبل العيش، وهي إجراءات تجبرهم بنهاية المطاف على الاستسلام واتخاذ قرارين لا ثالث لهما: إما العودة إلى سوريا وإما خوض تجربة الهجرة مرة أخرى، وفي كلتا الحالتين فإن المجهول يبقى مصيرهم.

الأهم من ذلك أنّ لبنان يتجاهل البعد الإنساني لكل لاجئ سوري مهدد الآن بالترحيل ومرغم على التفكير مجددًا بوجهة ومستقر آخر، وهو ما يجب أن يكون المقياس الفعلي لتعامل أي دولة مع اللاجئين فيها.

دور المجتمع الدولي

  • إعادة التوطين في بلدان ثالثة

يشكل اللاجئون السوريون في لبنان ما يقرب من ربع سكان البلاد البالغ عددهم ستة ملايين نسمة، وهي أعلى نسبة في العالم، وفي هكذا حالات يمكن اللجوء إلى سياسة إعادة التوطين التي تعني نقل اللاجئين من دولة اللجوء إلى بلدٍ آخر يوافق على السماح لهم بالدخول، ويمنحهم الإقامة الدائمة في نهاية المطاف.

تستخدم عملية إعادة التوطين عادة لتوزيع الأعباء وتقاسم المسؤوليات، لإقناع الدول المستضيفة للاجئين بالإبقاء على حدودها مفتوحة لاستقبال لاجئين جدد. في عام 2020 مثلًا، قدمت مفوضية اللاجئين ملفات أكثر من 39,500 لاجئ لتقييمها من قبل دول إعادة التوطين، وقد غادر 22,800 شخص إلى بلدان إعادة التوطين، وتصدر لبنان الدول التي غادر منها اللاجئون بواقع (4,600) لاجئًا.

  • تقديم الدعم المالي

طالب لبنان في أكثر من مناسبة بتكثيف الحكومات المانحة المساعدات المالية لتمويل برامج المساعدة الإنسانية، وهي مشاريع يمكن أن تستغل في تشغيل السوريين وتوفير فرص عمل مستدامة لهم، ليصبحوا معتمدين على ذاتهم، وعندئذ سيخف حجم الأعباء والنفقات الحكومية على اللاجئين وبالتالي الاستفادة من هذا النشاط في تحريك عجلة الاقتصاد اللبناني.

  • الضغط للاعتراف بـ "اللاجئين"

يُعرّف لبنان السوري على أنه "نازح"، ومع ذلك سمح لمفوضية اللاجئين بتسجيل مئات آلاف السوريين كلاجئين. وفي حال الضغط على لبنان للانضمام إلى اتفاقية اللاجئين والبروتوكول الخاص بها، يمكن تنظيم وضع اللاجئين في البلاد على نحو أفضل، خصوصًا فيما يتعلق بإقامتهم وحصولهم على حقوقهم الأساسية، وعلى النحو الذي يمنحهم شعورًا بالاستقرار وفرصة للاندماج والإنتاج.

تحتم الظروف الحالية على المجتمع الدولي والدولة اللبنانية أن يأخذ كلا الطرفين بعين الاعتبار إحدى أو بعض هذه الاقتراحات، تجنبًا لأي كوارث إنسانية قد تنجم عن التدهور المستمر لأوضاع السوريين في لبنان على المستوى القانوني والمعيشي، وامتثالًا لالتزاماتهم تجاه القانون الدولي أولًا والمبادئ الإنسانية ثانيًا.